Saturday, April 6, 2013

الحقيقة

تقديم.
تبدو الحقيقة واحدة بوصفها غاية المعرفة، غير أنها ذات أوجه متعددة. فهي إما عملية أو حدسية أو حسية. و هذا التو ثر بين وحدة مفهوم الحقيقة و تعدد أوجهها، يجعل من الضروري تحديد وسائل التمييز بين الصدق و الكذب. حتى تستجيب الحقيقة لمطلبي الكونية و الضرورة. إن الاعتماد على معايير للحكم يطرح مشكلة طبيعة الحقيقة. فهل الحقيقة معطاة أم يتم بناؤها؟ ما علاقة الحقيقة بالرأي؟ هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ لماذا نرغب في الحقيقة و نبحث عنها؟ ما معيار الحقيقة، ما قيمتها و ما غايتها؟ 

I- الرأي و الحقيقة. 
إشكال المحور: هل الرأي يعارض الحقيقة أم يتوافق معها؟
ما أوجه العلاقة بين الرأي و الحقيقة؟

1)أطروحة ليبنتس.
يؤكد الألماني ليبنتس أن الرأي معرفة ذات طبيعة احتمالية. و بذلك فهو لا يتعارض مع المعرفة البرهانية و الحقيقة. لأنه حينما نعجز عن الحسم في قضية ما بشكل قطعي، فإننا نلجأ إلى تحديد درجة الاحتمال لكي نصدر الحكم بطريقة عقلانية. و بذلك فإننا نكون في مجال الآراء. فالبحث في درجات الاحتمال هو ما تفتقر إليه الدراسات المنطقية العلمية.

2)أطروحة إيمانويل كانط.
يرى كانط أن الاعتقاد، أو لنقل القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين، يتوفر على ثلاث درجات: الرأي- الإيمان- المعرفة. فإذا كان الرأي هو اعتقاد يعي بأنه غير كاف ذاتيا و موضوعيا، فإنه ينبني على معرفة تتأسس بدورها على حكم يربطه بالحقيقة. و عليه فإن مبدأ الارتباط هنا يقتضي شرطي الكونية و الضرورة. 
فحسب كانط "إنني أقدم رأيي، و هذا الرأي هو اعتقاد يقودني إلى الحقيقة."
و إجمالا فالرأي –بالنسبة لكانط- يعتبر درجة من درجات المعرفة (الحقيقة)، لكن لا مجال له بخصوص الأحكام التي تصدر عن العقل الخالص و عن العقل الأخلاقي. 

3)أطروحة الفارابي.
يحدد أبو نصر محمد الفارابي الرأي أو بادئ الرأي بأنه كل المعارف العامية المشتركة بين عامة الناس. و التي تعتمد على الأقاويل الجدلية، الخطابية أو الشعرية. و هي أنواع من القياس ( الاستدلال) يحصل بها الظن أو الاقتناع، بالاعتماد على مقدمات بلاغية أو تخيلية. بخلاف المعرفة اليقينية التي تعتمد على البرهان(مقدمات يقينية تفضي إلى نتائج يقينية). و هكذا يتبين أن الفارابي يقر بأن بادئ الرأي يتعارض مع الحقيقة، فهو يعني عامة الناس ، أما المعرفة اليقينية أو الحقيقة البرهانية فهي تعني خاصة الناس( الفلاسفة).

4)أطروحة غاستون باشلار.
يِِؤكد باشلار على ضرورة انفصال الحقيقة عن الرأي. فهو يقول:" و بادئ الرأي مخطئ من حيث المبدأ دائما، إنه يفكر تفكيرا سيئا، بل إنه لا يفكر، و إنما يترجم حاجات إلى معارف". و من هذا المنطلق، يميز باشلار بين الرأي الذي لا يمكن اعتباره معرفة.
و الحقيقة التي تعتبر المعرفة الحقيقية. فالرأي حسب باشلار و إن بدا مفيدا للحياة العملية، فإنه لا يفيد في بناء معرفة دقيقة، مؤسسة و متماسكة عن الواقع. فهو نتيجة لتجربة متراكمة و مختلطة. يمكن أن تحتوي بدون وعي، أخطاء، أوهاما و تناقضات، 
و أحكتما مسبقة تشوه الواقع. و تحول دون معرفته على حقيقته، أي بشكل علمي
و موضوعي.

II- معايير الحقيقة.
إشكال المحور: ما معيار الحقيقة؟
هل هو مطابقة الفكر لمبادئه، أم مطابقة الفكر للواقع، أم هما معا؟

1)أطروحة ليبنتس.
من منظور نقدي يرفض ليبنتس التصور الديكارتي الذي يركز على اعتبار معياري الوضوح و التميز(البداهة) يمثلان أساسا لمعيار الحقيقة. و يطرح كبديل أن الحقيقة يجب أن ترتكز على المنطق و البرهان في مرحلة أولى و في مرحلة ثانية تعتمد على درجة الاحتمال. للتمكن من الفصل بين ما هو حقيقي و ما هو غير حقيقين بين الصواب و الخطإ. و بلغة المنطق بين الصدق و الكذب. فمعيار الحقيقة حسب ليبنتس (و من خلاله الاتجاه العقلاني) هو مطابقة الفكر لمبادئه ( المنطق و البرهان). 

2)أطروحة كانط.
يعتبر كانط أن البحث عن المعيار الكوني للحقيقة يستدعي طرح السؤال: هل المعيار من طبيعة مادية أم طبيعة صورية؟ 
يرفض كانط وجود معيار كوني مادي. و ذلك بالنظر إلى اختلاف الموضوعات ذات الطابع التجريبي. بينما يقبل بوجود معيار كوني صوري. لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها. كالمعرفة الرياضية التي تشكل نموذجا لهذه المطابقة بين المعرفة و ذاتها. لأنها تمثل معايير منطقية و كونية تنسجم مع قوانين الفهم و العقل. و رغم كون معيار الحقيقة في معرفتنا في معرفتنا بالمواضيع المادية غير كوني، فإنه يميز في هذه المعرفة بين مستويين: مستوى الظاهر (الفينومين) و هو ما يبدو للحس من موضوعات و يمكننا معرفته. و مستوى الشيء في ذاته (النومين) و هو ما لا يبدو للحس من موضوعات و ما لا نستطيع معرفته أبدا.
فحسب الاتجاه النقدي (كانط) يمكن اعتماد معيار للحقيقة في مجال المعرفة العلمية بالموضوعات المادية، من خلال مطابقة الفكر لمبادئه و للواقع. حيث أن معرفتنا بالمواضيع المادية نسبية (ليست كونية) محدودة لا تتعدى الفينومين.

3)أطروحة فيتجنشتاين. 
يعتبر الفيلسوف و عالم المنطق النمساوي فيتجنشتاين أن معيار الحقيقة من منظور الفلسفة التحليلية، هو مقارنة المعارف و الأفكار بالتجارب و الوقائع. و قدم لنا مجموعة من الأمثلة، أبرز عبرها أن الشك يأتي بعد الاعتقاد. و أن آلية التعلم تؤدي إلى الاهتداء إلى اليقين. و من تم معيار التحقق من معرفة ما هو أساسا التجربة. و إجمالا، فمعيار الحقيقة بالنسبة للاتجاه التجريبي هو مطابقة الفكر للواقع. أي للوقائع التجريبية.

III- الحقيقة بوصفها قيمة.
إشكال المحور: هل الحقيقة قيمة معرفية أم أخلاقية، ؟
هل هي نفعية بالنسبة للإنسان أم أنها قيمة وجودية مرتبطة بالحياة و المعنى و الحرية؟ 

1)أطروحة وليام جيمس. 
يُعتبر وليام جيمس الفيلسوف الأمريكي، من رواد المذهب البرجماتي (النفعي).
هذا المذهب الذي يقر بأن قيمة الحقيقة تتجلى في القدرة على استيعابها و المصادقة على صحتها، و تعزيزها بالانخراط فيها. و أخيرا التحقق منها. إن الحقيقة لا يمكن أن تكون لها قيمة إلا إذا كانت ناجعة و قابلة للتحقق الذاتي من خلال أعمال و وقائع تثبت مصداقيتها. 

2)أطروحة كيركيجارد.
يعتبر الفيلسوف الدنماركي كيركيجارد أن قيمة الحقيقة قبل أن تكون مجرد معرفة ليست قضية منطقية أو معرفية. بل لها قيمة أخلاقية. بمعنى أنها ليست خارج الوجود الإنساني، بل هي من صميم هذا الوجود. و قد استلهم كيركيجارد التجربة السقراطية باعتبارها تجربة وجودية تسعى إلى الوصول إلى الحقيقة اعتمادا على الطريقة الحوارية. ذلك "أن الحوار التوليدي هو العلاقة السامية بين الإنسان و الإنسان". فالتجربة السقراطية لم تكن فقط دفاعا عن قضية الإنسان و لكنها دفاع عن الأخلاق. و من تم فإن قيمة الحقيقة قيمة أخلاقية.

3)أطروحة نيتشه.
من منظور مغاير و بروح نقدية، يعتبر نيتشه أن قيمة الحقيقة يجب البحث عنها في أصلها و غايتها. فالحقيقة ليست إلا مجموعة من الأوهام ابتدعها الإنسان لكي يحافظ على بقائه. ذلك أن كل ما هو طيب و خير، و كل ما هو جميل و فضيل مصدره وهم. و قد استغل الإنسان اللغة باستعاراتها و تشبيهاتها من أجل أن يضفي طابعا مزيفا على الحقيقة. و في كلمة واحدة فإن الحقيقة وهم منسي حسب نيتشه. 
[center]

No comments:

Post a Comment